الفرق بين مفهوم « زحزحة القارات » المرفوضة علميا، ونظرية « تكتونية الصفائح » المقبولة
||||||أتمنى أن يصل هذا التوضيح إلى جميع الأساتذة الذين يدرسون الجيولوجيا|||||
تطرقت، يوم 19 نونبر، بكيفية مختصرة للفرق بين زحزحة القارات والصفائح التكتونية، لكن ملاحظة قيمة لأستاذة محترمة، على المقال الذي نشرته على موقعي الإلكتروني، تحت عنوان « مفاهيم علمية جيولوجية خاطئة وتشوهات معرفية جد حرجة والصواب فيها« ، جعلتني أخصص هذا المقال للتطرق لــ »مفهوم زحزحة القارات » الذي أزاحته نظرية « الصفائح التكتونية » (أو تكتونية الصفائح)، بالضروري من التفصيل.
وبداية أقول مؤكدا أن « مفهوم زحزحة القارات » لــ »فيجنر » أصبح علميا متجاوزا، فلا يجب الإلتفات إليه حتى لا يقع هناك خلط عند التلاميذ، خاصة وأن المتطرقين لهذا الموضوع ليسوا من المتخصصين. فهم أساتذة يدرسون، في نفس الوقت، الجيولوجيا والبيولوجيا (بكل تعقيداتها) التي تدرس تقريبا بالجامعة، علما أن هناك الكثيرين ممن ليس لهم إلمام كاف بكل الحيثيات المتعلقة بهذا الموضوع. وحتى لا أطيل بهذا الخصوص، أعيد التأكيد على أنه حتى مؤلفي الكتب المدرسية، أو بعضهم، كما رأينا، ليسوا ملمين بمثل هذه المواضيع. نعم، يمكن التطرق لزجزحة القارات في الجامعة، حينما يصبح التلميذ طالبا في مسلك الجيولوجيا والبيولوجيا، حيث يتطرق إليها فقط من أجل أن يعرف الطالب ما الذي جعل « فيجكنر » يضع مفهومه، ولماذا لم تقتنع الأوساط العلمية بنظريته ورفضتها رفضا باتا وكيف تم القبول بنظرية تكتونية الصفائح، فيما بعد، بدلا عنها. أي يتم التطرق إلى مفهوم زحزحة القارات فقط ليتعلم الطالب منطق البحث العلمي الذي يوظف البراهين (بنك المعطيات الميدانية والمختبرية وكل البيانات) ليتوصل إلى فكرة ما، أو حقيقة أو نظرية علمية ما. فنظرا للدسامة المفرطة لمقررات (من حيث الكم والنوعية) التعليم الثانوي الإعدادي والتأهيلي، فعامل الوقت، يدخل هو كذلك في حثيات التدريس، فحتى الأستاذ الملم جيدا بموضوع ما، لن يسعفه الوقت في توضيح ما يجب توضيحه للتلاميذ. فإذن، من المفروض، بيداغوجيا، عدم التطرق لزحزحة القارات التي دخلت سلة المهملات كــ »نظرية علمية » ولدت ميتة. والملاحظ أنه حتى وإن كان الأمر يتعلق بالتطرق لنظرية الصفائح التكتونية، فغالبا ما يتم ترديد مفهوم زحزحة القارات المتجاوز، من طرف المدرسين بالتعليم ما قبل الجامعي، وحتى بالجامعة، مما يبرهن على أن هناك خلطا، غير معقول، بين أمرين لا علاقة جد متباينين، من المنظور العلمي.
مفهوم زحزحة القارات لـــ’فيجنر » (Wegner)
بداية يجب التفريق بين الملاحظات العلمية القيمة لـــ »فيجنر » (عالم الفلك والأرصاد الجوية الألماني) وكيفية توظيفها، الغير مقنعة، في التوصل لمفهوم « زحزحة القارات » الذي لم يصمد أمام الانتقادات العلمية الحادة الموجهة له. التوظيف الغير مقنع لــ »فيجنر »، يرجع إلى عدم توفره، في ذلك الزمان (1912) على ما يكفي من المعطيات العلمية والبراهين التي تجعله يقترح نظرية علمية متناسقة، مقنعة.
الملاحظات والمعطيات العلمية القيمة (البراهين) التي جعلت « فيجنر » يضع مفهوم زحزحة أو انجراف القارات
– معطيات خرائطية، الدليل المورفولوجي
التشابه الواضح بين شكل جانبي قارتي أفريقيا وأمريكا الجنوبية، المتماثلتين
– معطيات جيولوجية بنيوية
تكامل وتقابل الكتل الصخرية القديمة بين القارتين أمريكا الجنوبية وإفريقيا
– معطيات مناخية
توزيع الرواسب الجليدية التي تعود للعصر البرمي – الكربوني في جنوب أمريكا الجنوبية وجنوب أفريقيا وفي مدغشقر والجزيرة العربية والهند والقارة القطبية الجنوبية وأستراليا
– معطيات بيولوجية، المستحاثات
الأحافير لنباتات وحيوانات تم العثور عليها في صخور ترجع لنفس الزمن الجيولوجي في قارات أمريكا الجنوبية وإفريقيا والهند وأستراليا والقطب
الجنوبي (انظر الصورة)
الحيثيات العلمية لمفهوم « زحزحة القارات »
المعطيات العلمية المعلومة والبراهين التي استثمرها « ألفريد فيجنر » لوضع ما يسمى بنظرية « زحزحة القارات » أو « انجراف القارات »، معطيات متنوعة، جيولوجية، بيولوجية، مناخية وخرائطية. ومما يجب التفطن إليه، انه ليس هو من توصل إل كل هذه البراهين من خلال أبحاثه الشخصية، بل هي براهين مستقاة من أعمال وأبحاث من سبقوه من الباحثين، في كل الميادين وعلى مستوى كل القارات. « فيجنر » فقط اعتمد عليها، بعد أن هذبها وصنفها، لتتجلى له حقيقة أن القارات الجنوبية (أمريكا اللاتينية وإفريقيا والهند وأستراليا والقطب الجنوبي) كانت مجتمعة، مكونة قارة ضخمة واحدة، قبل أن تفترق وتبتعد بعضها عن بعض. استنتاج علمي مسدد، لكن يبقى عليه إيجاد نموذج، مقنع علميا، لتوضيح كيف ابتعدت القارات عن بعضها البعض، أو تزحزحت أو انجرفت. نعم، الجميع مقتنعون بالفكرة، لكن يبقى عليه إيجاد المحرك الجيوديناميكي والآليات التي أدت إلى زحزحة هذه القارات وانجرافها. وفعلا، قدم « فيجنر » نموذج يحاكي » تحرك الجبال الجليدية العائمة على سطح مياه البحار »، بحيث تطفو القارات الصلبة ذات الكثافة المنخفضة (SAL ou SIAL) و »تنزلق » فوق القشرة المحيطية (SIMA) العالية الكثافة. طبعا لابد من قوة، أو قوات، تتسبب في تحريك هذه القارات وزحزحتها عن مكانها، وهو ما جعل « فيجنر » يرد مصدر انجراف القارات إلى قوتين أساسيتين: جاذبية المدّ والجزر للشمس والقمر، و، أو قوة الطرد المركزي بفعل دوران الأرض. يتعلق الأمر بنموذج حروكي (modèle mobiliste) مقبول من حيث الفكرة، لكنه لاقى معارضة شديدة من طرف الجيولوجيين، نظرا لأن القوى التي جعل منها « فيجنر » المحرك لزحزحة القارات غير كافية لتحريكها وزحزحتها.
هذا ما يمكن قوله بخصوص مفهوم « زحزحة القارات » الشهير، بالرغم من أنه لم يجد طريقه بين المفاهيم العلمية اليت لقيت القبول؛ فقد تم وأده في المهد رغم وجاهة البراهين التي بنى عليها « فيجنر » فكرته. فلم يتبقى صالحا من مفهوم زحزحة القارات إلا البراهين المتمثلة في المعطيات الجيولوجية والبيولوجية والمناخية والخرائطية والتي جعلت فيجنر يتشبث برأيه ونموذجه، الذي لم يلق القبول بالرغم من التحسينات التي أدخلها ما بين 1912 و1930، تاريخ وفاته.
إذن، « زحزحة القارات لم ترق(ى) إلى نظرية علمية، بل فقد ولدت متجاوزة، لا يلتفت إليها، لكنها مثلت نذيرا (بحيث تعد باكورة) لكتونية الصفائح »، أو « الصفائح التكتونية »، التي فرضت نفسها كنظرية علمية مقبولة من الأوساط العلمية، فيما بعد، في أواخر الستينات من القرن العشرين، بعد أن تم جمع براهين ودلائل علمية جديدة، من قبيل: – مراقبة قعر البحار؛ – الشذوذ المغناطيسي (تسجيل المجال المغناطيسي في البازلت)؛ – عمر صخور قعر المحيطات؛ – الموجات الزلزالية وتوزيع الزلازل؛ – البنية الداخلية للأرض؛ – توزيع تدفق الحرارة على سطح الأرض (مناطق مرتفعة الحرارة)؛ – مناطق مستقرة جيولوجيًا محاطة بمناطق نشطة… هذه البراهين الجديدة أضيفت إلى البراهين التي اعتمد عليها « فيجنر » في وضع نظريته التي تفيد بزحزحة القارات كنموذج » حروكي » لا يجادل أحد في وجاهته، بحيث سيأخذ مكانه باستحقاق ضمن نظرية تكتونية الصفائح.
سأتوقف عند هذا الحد من التطرق لمفهوم « زحزحة القارات »، ولن أتطرق هنا لنظرية تكتونية الصفائح التي لم يعد مفهومها يطرح الكثير من الإشكالات. لكن لا بد من التأكيد على جملة من الأمور التي أصبحت متداولة على نطاق واسع، في التعليم ما قبل الجامعي، وحتى في التعليم العالي وكذا في الكثير من المواضيع المتطرق لها على الملاح غوغل.
يتعلق الأمر بالخلط الرهيب بين مفهوم زحزحة القارات (أو انجرافها) المتجاوز (علميا) ونظرية تكتونية الصفائح التي تلقتها الأوساط العلمية بالقبول. فبالرغم من أن الجميع يردد أن مفهوم زحزحة القارات لــ »فيجنر » أصبح متجاوزا علميا، إلا أنه خلال التطرق لتكتونية الصفائح، غالبا ما يتم استعمال وترديد مصطلح « زحزحة القارات » للتعبير عن تباعد القارات أو تقاربها محمولة بالغلاف الصخري (الليتوسفير) على شكل صفيحة تكتونية. فاستعمال مصطلح « زحزحة القارات » في الكلام عن نظرية تكتونية الصفائح يدل على أن هناك خلطا غير معقول، وغير مقبول، بين المفهومين الجد متباينين، وإلا لما تم رفض مفهوم زحزحة القارات من طرف الأوساط العلمية رفضا قاطعا، وتقبل نظرية « الصفائح التكتونية ».
المنطق البيداغوجي الذي جُعل منه مدخلا رئيسيا لإصلاح التعليم ما قبل الجامعي، بل وحتى الجامعي (!?)، يقتضي عدم التطرق، خلال التعليم ما قبل الجامعي، للمفاهيم الجيولوجية التي أصبحت متجاوزة، وإلا فهناك الكثير جدا من المفاهيم التي تم تجاوزها، فلم يبق لها موضع قدم بين المفاهيم الجيولوجية المعتمدة والمتداولة ، وطبعا ليس لها موضع قدم في البرامج التعليمية. فإن اقتضى الحال التطرق لمفهوم « زحزحة القارات »، ضدا على المنهج السليم للتدريس، فيجب أن يكون المدرس متمكنا من الموضوع، وله الوقت الكافي، بحيث يجعل من التطرق لهذا المفهوم المتجاوز فقط وسيلة لتعليم التلاميذ (والطلبة في التعليم العالي) كيف يتم جمع البراهين والدلائل قصد بناء مفهوم علمي من خلال توظيفها التوظيف السليم، وكيف يتم الانتقاد البناء، بمنطق علمي سليم، لمفهوم ما أو نظرية. يتعلق الأمر بتعليم الطلبة التفكير بمنهج علمي، بحيث يتم جمع المعطيات والبراهين العلمية ليتم الاعتماد عليها في وضع الخطوط العريضة لمفهوم ما أو نظرية… . إذن، لا عيب في التطرق لمفهوم « زحزحة القارات » من هذا المنظور قبل غلق موضوعه تماما؛ فلا مكان لمفهوم زحزحة القارات عند التطرق لمفهوم « تكتونية الصفائح » الذي يختلف اختلافا جوهريا عن المفهوم المتجاوز من حيث طبيعة الكتل المتحركة والمحرك الجيوديناميكي الذي يحركها. فتكتونية الصفائح، كنظرية مقبولة، لا علاقة لها بمفهوم انجراف أو زحزحة القارات؛ فالمتحرك هو الرداء الليتوسفيري الذي تعلوه القشرة الأرضية، المحيطية أو القارية، بينما في زحزحة القارات، فالمتحرك هو القارة كقشرة. فالمحرك الجيوديناميكي للصفائح، المتفق عليه، هي خلايا الحمل الحراري على مستوى الرداء، بينما محرك القارات المرفوض هي جاذبية المدّ والجزر للشمس والقمر وقوة الطرد المركزي بفعل دوران الأرض. فطبيعة المصطلحات العلمية هي أنها ذات حمولة تصورية دقيقة ومحددة، فما لم يتم استيعاب مصطلح علمي ما، بكل وضوح وجلاء، يصعب معرفة كنهه وحمولته التصورية وأبعاده، ليصبح تدريسه يشكل أقصر طريق لتشويهه وتشويه منطق ومنهج التفكير العلمي وإصابته بعاهات مستدامة. وهنا أقصد تشويه منطق ومنهج تفكير التلميذ والطالب وإصابته بالعاهات المستدامة… فلنكن جد حريصين على تدريس التلميذ المفاهيم التي يمكنه أن يستوعب كنهها وحمولتها التصورية والتمثلية بكل وضوح وجلاء؛ يجب، إذن، التدرج في تعليم المتلقي ما يمكنه استيعابه من مفاهيم علمية حسب عمره ومستواه التعليمي.
ملاحظـــة هامــــة:
فكما أوضحت أعلاه، فمن المطلوب المفروض كمنهجية علمية، عامة، بالنسبة للعلوم الحقة والعلوم الإنسانية والأدب، أن يتم البدء بتمحيص المصطلحات، العناوين، الكلمات، كلمة كلمة، قصد الوقوف على حمولتها وإيحاءاتها المعرفية، وحتى تتكون في أذهاننا الصورة الثلاثية الأبعاد الواضحة الجلية لكل مصطلح أو مفهوم.
فمثلا، مفهوم « زحزحة القارات » أو « انجراف القارات »؛ فماذا يعني فعل « زحزح »؟ « تزحزح عن المكان » أي تنحى عنه، أي ابتعد عنه، أي تركه ». وماذا يعني فعل « انجرف »؟ معناه « أسلم نفسه مندفعا، أو عجز عن مقاومة التيار فجاراه وسار معه… »ُ. فكلتا الحالتين (تزحزح أو انجرف) تعني أن القارات تتعرض لتيارات قوية (؟) تجعلها عاجزة عن مقامتها بحيث تنحيها عن مكانها الأصلي وتبعدها عن بعضها… إذن يبدو، ذهنيا، أن القارات عبارة عن قطع من القشرة الأرضية، قائمة بذاتها، ذات كثافة منخفضة، بحيث تطفو فوق الطبقة السفلية من قشرة الأرض المكونة من السيليكات والمغنيسيوم (SIMA) ذات كثافة مرتفعة، والتي تمتلك خاصية شبيهة بمادة سائلة. هذه الحيثيات توضح بجلاء أن مفهوم زحزحة القارات لا علاقة لها بالمعلوم من تكتونية الصفائح…
مفهوم أو نظرية « تكتونية الصفائح »، ماذا يعني؟ ماذا تعني التكتونيك (tectonique)؟ تعني من بين ما تعني، حدوث تشوهات على شكل بنيات تكتونية ناتجة عن الضغوطات التكتونية. كما تعني دراسة البنيات الجيولوجية ذات المقياس الكيلومتري فما فوق… التشوهات التكتونية هي ناتجة عن الضغوطات التكتونية المتأتية من أعماق الكرة الأرضية. أما الصفيحة التكتونية، فماذا تعني؟ الصفيحة هي كل عريض من حجارة أو معدن أو لوح… أي قطعة ذات مساحة كبيرة جدا بالنسبة لسمكها (طويلة -عريضة، لكن ذات سمك ضئيل)، كمثال اللوح. واللوحة (أو اللوح) تعني قطعة مستقلة بذاتها، والصفيحة التكتونية قطعة من الغلاف الصخري الصلب، تحدها حدود جلية مع الصفائح التي تحاذيها. هذه الصفائح تتعرض لتأثير الضغوطات التكتونية التي تجعلها تتحرك بالنسبة لبعضها البعض، تباعدا أو تقاربا أو انقلاعا (انزياح تكتوني أفقي، انزلاق تكتوني أفقي، صدع انزياح أفقي …)، مما يحدث التشوهات التكتونية.
إذن، المطلوب، بيداغوجيا، من التعليم أن يحصل في ذهن المتعلم تصور جلي، ثلاثي الأبعاد، للمصطلح أو المفهوم أو… الذي يدرس له، حسب مستواه التعليمي… فيجب قطعا تعليم التلاميذ الأمور العلمية التي يتمكنون في تصورها التصور الواضح الجلي. فلا يجب إرهاق، لا المدرس، ولا التلميذ ، بتدريس مستويات علمية عالية، لن يتمكنوا من تصورها التصور الذهني السليم الواضح، وإلا نخلق في أذهانهم عاهات وتشوهات علمية من الصعب تدركها من بعد.
- د. عبد الله لخلوفي
المدرسة العليا للأساتذة
جامعة محمد الخامس


